
ما أصعبها على النفس لحظات الفراق .. تعيش حياة كاملة بين أحبائك من أهل و أصدقاء و جيران و زملاء و معارف .. تشاركهم حياتهم و يشاركونك أفكارك و أحلامك و طموحاتك .. تسعد بسعادتهم .. و تهتم لحزنهم .. تناقشهم أفكارك و يضيفون اليها من عبيرهم .. تقفز فرحا فى أفراحهم .. و تجدهم بجانبك فى شدائدك .. و تتسارع خطواتهم اليك اذ احتجت معونتهم يوما .. قد تتشاجر معهم أحيانا .. تغضب منهم .. بل و تتمرد عليهم .. و تفصل بينكم بعض لحظات الفرقة .. و قد تتخيل أنك تستطيع العيش بدونهم .. و أن الأمر فى غاية السهولة .. و أنه يمكنك الاعتماد على نفسك فى تسيير أمور حياتك .. و لكنكم تعودون .. تعودون الى رحاب بعضكم البعض .. فلا يمكن لأحد منكم الاستغناء عن الاخر مهما كانت الظروف ..
و أتذكر لحظة فراقى حضن أمى لحظة توديعها و انا فى طريقي الى المطار ... أبعد عدة أمتار .. لأعود مسرعة مرة أخرى الى ذراعيها .. ثم أتماسك لآخذ خطوات معدودة تفصل بينى و بينها .. لأكون بين يديها ثانية .. حتى يأتيني صوتها الحانى : " يلا بقى .. اجمدي كده .. علشان تلحقو الطيارة " .. فأتركها مجبرة و فى مقلتي تحجرت دموعي .. و أتمنى لو أعود جنينا في أحشائها فلا أفارقها أبدا .. وتبدو لي الأحرف في غاية الوهن في تلك اللحظة لأختار منها ما أقول ..ءأقول لها أحبك يا أمي .. أم أسألها رضاها عني .. أم اعتذر لها عما بدر مني فى حقها من قبل .. أم أخبرها بأني اشتقت اليها من قبل أن أفارقها .. أم أشكرها على كل ما بذلت من سنوات عمرها من أجل اسعادي .. أم أشكرها على ما ستبذله فى السنوات القادمة .. أم أم أم ... !! .. أهمس ببعض الكلمات اليها فأستشعر يدها الحانية تمسح على ظهري لأتركها و أرحل ..
في الغربة حينما يأخذك حنين الى الوطن تتلمس بعض السلوان فى الصور التى حملتها معك .. و تجلس للتذكر .. هذه ليوم تخرجنا .. و هذه رحلة المدرسة أيام الثانوي .. و هذه من أيام الطفولة .. و تلك لصديقات العمر .. و أخرى لزميلات الدراسة .. و غيرها يوم تجمع العائلة .. و ها هي أختى تضحك .. و أبي يبتسم .. و أمي تنادي .. و شباب يهتفون في الميدان .. و أعلام ترفرف في السماء .. و زغاريد تعلو في قاعة الزفاف .. و تتوالى الذكريات .. و فجأة تجد عقلك يسأل .. يا ترى ما هو الوطن ؟؟.. هل هو الأحاسيس التى نعيشها مع أقراننا ؟ أم انه الذكريات المحفورة بداخلنا ؟ أم انه الأفراد ممن جمعنا بهم طريق الحياة ؟ أو لعله الأماكن التى عشنا فيها و عاشت فينا ؟ فتجتهد لتذكر .. أدرسوه لنا أيام الجامعة ؟ لقد درسونا معنى " الدولة " .. و نسو أو لعلهم تناسو أن يدرسو لنا ما هو الوطن .. ربنا لعجزهم عن الالمام بكنه .. أو ربنا لأننا نعيش أكذوبة تعليمية يجتهدون فيها لاستعراض علمهم فى التفاصيل الصغيرة .. و لا تسمى امكاناتهم العلمية لتدريسنا المعانى الأكبر على الرغم من كونها الأهم و الأعظم و الأشمل .. !!
و تدرك حينها أن اللحظات التى تعيشها وسط أحبائك أثمن بكثير من أن تعكر صفوها زلات بسيطة .. أو أن تلوثها لحظات غضب ..
" ياه تخيلي الناس الى زي أبو أحمد و الى مهاجرين هنا دول عايشين ازاى ؟؟ احنا ان كنا بنفارق الى بنحبهم مرة واحدة .. هما بيفارقو ميت مرة .. كل ما حد يجي هنا و يقعد كام سنة دراسة ولا شغل و يتعرفو عليه و يحبوه يمشي و يسيبهم علشان يبنو علاقات جديدة !! " .. هكذا انتشلنى صوته الحانى من بحر أفكاري لأغرق مرة ثانية فى تأمل عميق للمشهد من حولي .
يتبع ..