Wednesday, July 20, 2011

يوميات مغتبرة حديثة 5



فراق الأحبة




ما أصعبها على النفس لحظات الفراق .. تعيش حياة كاملة بين أحبائك من أهل و أصدقاء و جيران و زملاء و معارف .. تشاركهم حياتهم و يشاركونك أفكارك و أحلامك و طموحاتك .. تسعد بسعادتهم .. و تهتم لحزنهم .. تناقشهم أفكارك و يضيفون اليها من عبيرهم .. تقفز فرحا فى أفراحهم .. و تجدهم بجانبك فى شدائدك .. و تتسارع خطواتهم اليك اذ احتجت معونتهم يوما .. قد تتشاجر معهم أحيانا .. تغضب منهم .. بل و تتمرد عليهم .. و تفصل بينكم بعض لحظات الفرقة .. و قد تتخيل أنك تستطيع العيش بدونهم .. و أن الأمر فى غاية السهولة .. و أنه يمكنك الاعتماد على نفسك فى تسيير أمور حياتك .. و لكنكم تعودون .. تعودون الى رحاب بعضكم البعض .. فلا يمكن لأحد منكم الاستغناء عن الاخر مهما كانت الظروف ..

و أتذكر لحظة فراقى حضن أمى لحظة توديعها و انا فى طريقي الى المطار ... أبعد عدة أمتار .. لأعود مسرعة مرة أخرى الى ذراعيها .. ثم أتماسك لآخذ خطوات معدودة تفصل بينى و بينها .. لأكون بين يديها ثانية .. حتى يأتيني صوتها الحانى : " يلا بقى .. اجمدي كده .. علشان تلحقو الطيارة " .. فأتركها مجبرة و فى مقلتي تحجرت دموعي .. و أتمنى لو أعود جنينا في أحشائها فلا أفارقها أبدا .. وتبدو لي الأحرف في غاية الوهن في تلك اللحظة لأختار منها ما أقول ..ءأقول لها أحبك يا أمي .. أم أسألها رضاها عني .. أم اعتذر لها عما بدر مني فى حقها من قبل .. أم أخبرها بأني اشتقت اليها من قبل أن أفارقها .. أم أشكرها على كل ما بذلت من سنوات عمرها من أجل اسعادي .. أم أشكرها على ما ستبذله فى السنوات القادمة .. أم أم أم ... !! .. أهمس ببعض الكلمات اليها فأستشعر يدها الحانية تمسح على ظهري لأتركها و أرحل ..

في الغربة حينما يأخذك حنين الى الوطن تتلمس بعض السلوان فى الصور التى حملتها معك .. و تجلس للتذكر .. هذه ليوم تخرجنا .. و هذه رحلة المدرسة أيام الثانوي .. و هذه من أيام الطفولة .. و تلك لصديقات العمر .. و أخرى لزميلات الدراسة .. و غيرها يوم تجمع العائلة .. و ها هي أختى تضحك .. و أبي يبتسم .. و أمي تنادي .. و شباب يهتفون في الميدان .. و أعلام ترفرف في السماء .. و زغاريد تعلو في قاعة الزفاف .. و تتوالى الذكريات .. و فجأة تجد عقلك يسأل .. يا ترى ما هو الوطن ؟؟.. هل هو الأحاسيس التى نعيشها مع أقراننا ؟ أم انه الذكريات المحفورة بداخلنا ؟ أم انه الأفراد ممن جمعنا بهم طريق الحياة ؟ أو لعله الأماكن التى عشنا فيها و عاشت فينا ؟ فتجتهد لتذكر .. أدرسوه لنا أيام الجامعة ؟ لقد درسونا معنى " الدولة " .. و نسو أو لعلهم تناسو أن يدرسو لنا ما هو الوطن .. ربنا لعجزهم عن الالمام بكنه .. أو ربنا لأننا نعيش أكذوبة تعليمية يجتهدون فيها لاستعراض علمهم فى التفاصيل الصغيرة .. و لا تسمى امكاناتهم العلمية لتدريسنا المعانى الأكبر على الرغم من كونها الأهم و الأعظم و الأشمل .. !!

و تدرك حينها أن اللحظات التى تعيشها وسط أحبائك أثمن بكثير من أن تعكر صفوها زلات بسيطة .. أو أن تلوثها لحظات غضب .. و تدرك بأن سويعات الحياة أقصر من أن نملأها بالاختلاف .. و تدرك أننا دائما في أمس الحاجة للترابط و التعاون و التكاتف و التآلف من أجل البناء و العمران .. من أجل تحقيق الحياة الكريمة التى نحلم بها دوما لنا و لأبنائنا من بعدنا ..

" ياه تخيلي الناس الى زي أبو أحمد و الى مهاجرين هنا دول عايشين ازاى ؟؟ احنا ان كنا بنفارق الى بنحبهم مرة واحدة .. هما بيفارقو ميت مرة .. كل ما حد يجي هنا و يقعد كام سنة دراسة ولا شغل و يتعرفو عليه و يحبوه يمشي و يسيبهم علشان يبنو علاقات جديدة !! " .. هكذا انتشلنى صوته الحانى من بحر أفكاري لأغرق مرة ثانية فى تأمل عميق للمشهد من حولي .


يتبع ..


Thursday, July 14, 2011

يوميات مغتربة حديثة 4



أبو أحمد





أسرعنا الى سائق الاتوبيس المتوقف لنفهم منه ماذا يريد منا و ما الذي دعاه للتوقف و انذارنا " بكلاكسين " متتاليين .. حينما وصلنا الى باب الدخول الخاص بالاتوبيس وجدنا السائق يقول لنا فى فرحة عارمة :


" سلامو عليكو .. ايه الاخبار ؟ " ...

لمفاجأتي كان يتحدث العربية باللهجة المصرية .. ثم نظر الىّ قائلا : " حمد الله ع السلامة " .. ثم الى زوجي " ايه انتو رايحين على فين كده ما تيجو أوصلكو "

زوجي : " لا ألف شكر ربنا يكرمك .

- لا و الله تعالو أوصلكو .. انتو رايحين فين .. تعالو حوصلكو أولديهم .

- ربنا يكرمك احنا ساكنين هنا فى ماريهم

- ايه ده ؟؟ بس انت كنت فى اولديهم .. انت نقلت ولا ايه ؟

- اه نقلنا هنا

- انتو نمرة كام ؟

- احنا نمرة 41

- طيب انا جنبكو فى 35 .. ابقو تعالو بقى

- ان شاء الله

- لا لازم تيجو أكيد

- باذن الله

- طيب مش عايزين أى حاجه .. مش عايزين تروحوا فى اي حته ؟ أوصلكو أولديهم ؟؟

- لا شكرا الله يباركلك

- طيب يلا مع السلامة

- و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته يا أبو أحمد

أبو أحمد .. سائق أتوبيس مصري الجنسية يعمل فى السويد .. اسكندراني المنشأ .. أب لستة أبناء .. انتقل الى السويد منذ أواخر الثمانينات .. كتبت عنه الصحف السويدية أكثر من مرة .. دائما يقول : " انا كل ما بعزم حد عندي ما بيجيش .. تعالى انت بقى " و سبب ذلك أنه متزوج من أم أحمد .. بولندية مسلمة و لكنها لا تتحدث العربية ولا الانجليزية و بالتالى زوجات العرب لا يستطيعون التواصل معها .. على الرغم من ان أبو أحمد علمها كيفية عمل " طشة الملوخية " على الطريقة المصرية :D

هكذا كان تعريف زوجي لأبو أحمد .. أنهى زوجي التعريف لنبدأ حالة من الضحك الهيستيري على ما حدث ..

" لأ المصري مصري مهما حصل برضه " .. قلتها بصوت عالى .. فعلى الرغم من القواعد الصارمة القانونية ها هنا الا ان " أبو أحمد " خالفها تقريبا جميعا فقط لـ " يدردش " معنا عد دقائق .. فهو أولا : توقف بدون داعي و " ضرب كلاكسات " بدون داعي لها .. و توقف مدة 5 دقائق أو أكثر للحديث معنا و هو بذلك قام بتعطيل كل الركاب الذين كان يقلهم هذه المدة بلا أى مبرر .. و عرض علينا توصيلنا بالاتوبيس لمنطقة ليست مدرجة فى خط سير الاتوبيس الذي يقوده ... كل هذا فقط لأننا مصريون مثلنا مثله !!!

مرت عدة أيام و ذهبنا الى بيت أبو أحمد تلبية لدعوته لنا على العشاء .. استقبلنا استقبالا حافلا هو و أهل بيته جميعهم .. كانت زيارة جميلة للغاية .. حكى لنا فيها أبو أحمد عن تاريخ عائلته بالكامل فردا فردا .. و أخذ يتحدث عن السويد و حياته بها .. كان كرم ضيافته فائقا .. و كان منزله جاذبا لانتباهي بشكل كبير .. فلقد وضع أبو أحمد كل ما ينتمى لمصر و الهوية الاسلامية بأى شكل من الأشكال فى منزله .. بدأ من ورق البردي المعلق على الحائط .. و مرورا بآية الكرسي المذهبة على القطيفة السوداء .. و الورود البلاستيكية فى الفازات الصيني الموضوعة فى الأركان .. و المسبحة ذات الخرزات الزرقاء الكبيرة .. و الأهرامات الرخامية .. و المكتبة المكدسة بمجلدات كتب الفقه و الحديث و السيرة التى تشكل اسم السلسة حينما تضعها جنبا الى جنب .. يتوسطها تماما تلفاز كبير للغاية كأنه شاشة سينما .. مفتوح دائماعلى قناة اقرأ و قنوات القرآن الكريم كما يقول أبو أحمد ..

على الرغم من أن المنزل بدا غير متناسق الى حد كبير مع كل هذا الكم من الأغراض الغير متسقه مع بعضها البعض لا من حيث الحجم ولا حتى من حيث الهوية .. الا انني شعرت ان أبو أحمد قد وضع هذه الاشياء حتى تبقى أمامه دائما كما لو كان يؤكد لنفسه فى كل مرة يدخل الى منزله أنه مصري الجنسية .. مسلم الديانة .. عربي اللسان .. حتى لا ينسى مع سنوات الغربة المتتابعة ولا يتحول الى مسخ لا يدرك أصوله و لم يدرك أصول غيره من الأوروبيين ..

و على الرغم من أن أبو أحمد تأثر كثيرا بحياته فى السويد و هو ما يبدو على لكنته المصرية المختلطة باللكنة الشامية و نهايات بعض الكلمات المتلاشية التى تقترب من السويدية .. و أبنائه الذين يتحدثون العربية بتكسير .. فأبو أحمد شخصية مصرية تنطق بأصالة عجيبة .. بدء من تسمية ابنته الكبري بـ " سيدة " مثل اسم والدته .. و مرورا باهتمامه بأحوال مصر و نهمه للمعرفة عن كل ما يجري فيها و زياراته المتقطعة بين احين و الآخر لها .. و انتهاء بـ " جدعنته " و خدمته لمن حوله فى المواقف المختلفة التى يحتاجون اليه فيها ..

انهينا لقائنا معه و أسرته و شكرناه على حسن الضيافة .. و تركناهم و نحن سعداء للغاية ..

اتجه الى زوجي قائلا : ايه رأيك فى القعدة بتاعت النهارده ؟؟

فأجبته قائلة : مصر وحشتني أوي !!

يتبع ...