Saturday, May 28, 2011

يوميات مغتربة حديثة 1



والسماوات مطويات بيمينه





“Ladies and gentlemen, welcome to the Turkish airlines”

بهذه الجملة تبدأ ضربات قلبك فى الارتفاع شيئا فشيئا ، فما هي الا دقائق معدودة و ستكون فى تجربة حديثة للغاية لم تعتدها من قبل .

“Please, maintain your seats and fasten your seat belts”

تطفئ الانوار من حولك فى ذلك الانبوب المعدني الطويل ، و يعتدل الناس فى مجلسهم ، و تبدأ الضوضاء تصدر من محركات الطائرة ، أشعر بيديه الرقيقتين تحتضنان كفي الصغيرة .. أستشعر بعض الأمان و كل الحنان .. و يأتي صوته ليهامسني " فى الطلوع بنكبر و فى النزول بنسبح " .. و تفصل بيننا فترة صمت ..

أنظر من النافذة بجواري لأودعها .. فأرى من تحتى أنوارا تتلألأ فى ظلام دامس يلف المكان .. دمعة تفارق مقلتي في خلسة ممن حولي .. أسمع " لحظة فراقك يا حبيبتى غير .. أمانة تبوسولى ايديها و تسلمولى على بلادي " .. تتردد بداخلى أسرع فأسرع .. و تتسارع ضربات القلب ، فتنساب دموعي معها .. تشتد الكلمات في الطرق على أبواب قلبي كما لو كانت تعاتبه " لحظة فراقك يا حبيبتى غير .. لحظة فراقك يا حبيبتى غير " .. ثم أتذكر فجأة : " على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء .. أنا مصر عندي أحب و أجمل الاشياء .. بحبها و هى مالكة الأرض شرق و غرب .. و بحبها و هي مرمية جريحة حرب .. بحبها بخفة و رقة و على استحياء .. و أكرها و ألعن أبوها بعشق زى الداء .. و أسيبها و أطفش فى درب و تبقى هى فى درب .. و تلتفت مصر تلاقيني جنبها فى الكرب .. على اسم مصر " .

نستمر فى الارتفاع .. أصبحت الان بالكاد أراها .. يتسرب الظلام رويدا فيغمى الرؤية تماما ليدع المجال لنجوم السماء لاستعراض بريقها الساحر على هذه اللوحة القاتمة أمامي ..

" عايزة منديل ؟ " .. ينتشلنى صوته الهادىء من بين دموعي .. و أرى ابتسامته الدافئة تحتضن روحي ..

ميدان التحرير ، لحظة تنحي الطاغية ، استعدادات الزفاف ، يوم الحنة ، يوم زفافى ، شهر العسل ، تحضير الحقائب ، وداع الاهل ، الطريق للمطار ، عبور الجوازات ، أختى و هي تبكي ، وجه أبي ، صعود الطائرة ، ساعات انتظارنا فى مطار اتاتورك ، توجهنا الى ستوكهولم .. هكذا توالت المشاهد أمامي .

أحدق فى النافذة .. أسراب هشة من القطن الابيض أسبح فيها .. سحب كثيفة تسير فى هدوء تام ، كما لو كانت تعلم أين سينتهى بها المسير ..

احساس لا يوصف .. تشعر بأن روحك تهفهف من حولك .. ما هذا الكون الذي نعيش فيه ! ما هذه الروعة التى ننشغل عنها بزخم الحياة ! يحاول عقلك استيعاب هذه الشبكة المعقدة من العلاقات التى تعج بها حياتك و تستقبلها بشكل روتيني كل يوم فلا يستطع !! يا الهى !! ما هذا التعقيد الذى نتعامل معه بكل هذه البساطة .. غاية التعقيد في منتهى البساطة !! هكذا بدى لي الأمر .. يفاجئ بصري حينها قطع اليابسة السابحة فى المياه .. فأستشعر بان هذه الأرض متناهية الصغر .. و أستشعر أن هذه السماء يمكن الوصول لأقصى أطرافها .. نعم .. يتملكنى هذا الاحساس تماما الان .. و تنير فى عقلى فجأة الاية الكريمة : " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ " .

صدقا .. فالامر بالفعل هكذا .. الارض قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه .. نعم انها القُدرة .. معنى يتلألأ أمامي .. " القُدرة " .. تعلم حينها انه الملك .. صدقا الملك .. تستشعر قوة و قدرة و عظمة و انفرادا لم تستشعرهم من قبل .. ثم يمر عليك شريط حياتك فى ومضة خاطفة .. فلا ترى فيه غير ذلات متتابعة .. غفوات متلاحقة .. تغطرس غير مسبوق .. و توهما بالقدرة يثير كل العجب و الاشمئزاز فى آن واحد ! .. و نِعَم تغرق فيها حتى أذنيك .. و سخط يتقلب بداخلك بين فترة و أخرى على هذه النعم طمعا في المزيد .. و جحودا و تقصيرا بالغين فى حق ربك .. و صفحا و صبرا و غفرانا و مغفرة يقابلون سلوكك فى حق مولاك منه .. فيقشعر بدنك .. و تنتابك هزة خفيفة .. و ينطق لسانك بـ " لا اله الا الله " ، " لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين " .

و تظل تذكر و تذكر و تذكر " و ما قدروا الله حق قدره " " و ما قدروا الله حق قدره " و ما قدروا الله حق قدره "

و يأتيني صوته الحاني من جديد لينهى هذه الحالة التى تستبد بي و تتسع ابتسامته .. " وصلنا خلاص .. مرحبا بك في بلاد الفايكينج " !!

يتبع ..