Sunday, January 3, 2010

فضفضة جوانية 8/7



أنهيت مهام الشراء الشاقة في شارع عباس العقاد .. لأجدنى بعد ساعة من الهرولة بين أول عباس و آخره بحثا عما أريد مثقلة بكم من الحقائب الثقيلة و علي انتظار خالتى حتى ال8.30 مساءا لأذهب معها الى الطبيب ..


بعد تفكير عميق قررت ان أذهب الى المسجد لاستريح قليلا و أقضي ما بقى من فترة الانتظار فيه ، فكم تستريح نفسي من همومها و عنائها عندما أكون داخل أى مسجد .

كثيرا ما فكرت في بعض الأيام أن ألجأ الى الجلوس في المسجد لبعض الوقت فقط بغرض التأمل و التفكر .. و الراحة من عناء الحياة و همومها التى تثقل كاهلي من حين لآخر .. فان للمسجد أثر سحري عجيب بنفسي ..

لعله ذلك الأثر الذى تركه بداخلى منذ طفولتى ، حينما كانت تأخذنا أ/ الهام و نحن لانزال بـ 2 روضة ، لاعطائنا حصة القرآن الكريم بداخل المسجد الملحق بمدرستي الحبيبة ..

كانت هي أروع دقائق تلك التي أقضيها مع زملائى ملتفين حولها فى الحقلة ، منصتين لها بكل جوارحنا و نحن نفترش ذلك الركن الصغير فى جانب المسجد .. و نشاهد أولئك المصلين الذين يتوافدون الى الداخل لقضاء الصلاة ..


كم من مرة فكرت أن أبيت ليلتي فى المسجد !! .. هو مجرد تمنٍ يراودني بين الحين و الآخر .. أرجو أن أحققه يوما ما .. و في كل مرة يداعب فيها مخيلتي ذلك الحلم ، أتذكر ذلك الامام الأموي الذى أقسم على زوجته بعدم المبيت في أى بيت من بيوته و الا سيقع عليها حلف الطلاق ، فنصحوها بعد حيرة عارمة أن تقضي ليلتها في المسجد ، فهو المكان الوحيد الذى لا سلطان للامام عليه .. فهو بيت الله ..


يالله !! ياله من تعبير رائع .. ( بيت الله ) .. أشعر بسكينة عجيبة حينما استحضره ..


ذهبت و أنا محملة بكم الحقائب التي بين يدي الى أقرب مسجد في " عباس العقاد " .. حقا هو ليس مسجدا فارها ، و لكنه مكان للصلاة يطلقون عليه " مسجد بن الخطاب " يوجد تحت احدي البنايات ..

حينما هممت بالدخول وجدت بعض الرجال يمنعونني من دخوله بحجة " أن به اصلاحات " ..

فى نفس اللحظة التى كانو يمنعوننى فيها من الدخول بحجه " الاصلاحات " وجدت النساء تتوافد خارج المسجد بعد قضاء الصلاة ..


ممممممم .. هكذا يسير اتجاه السير اذا .. الى خارج المسجد فقط .. ولا يسمح لأحد بالدخول ..!!


برهة من الحيرة و عدم فهم ما يحدث انتابتنى .. ثم أدركت تحديدا ماذا يحدث .. لقد " انتهى وقت الصلاة " !!!!!!!!!!!!!!!! .. و بالتالى سيتم اغلاق المسجد ..



لم تكن هي المرة الأولى التى أتعرض فيها لذلك الموقف العجيب .. حدثت من قبل مرارا و تكرارا .. و يبقى ذلك الحوار الذى دار بيني و بين احد " فراشي " المساجد محفورا بذهنى .. حينما عطلتنى زحمة المسير فى شوارع القاهرة المكدسة و اقترب موعد أذان العصر و هرولت الى احد المساجد لأداء صلاة الظهر فوجدت المسجد مغلقا .. و حينما طلبت من الرجل أن يفتح لى مصلى السيدات رفض بشدة .. و حينما تعجبت من ذلك الرفض و أصررت على طلبي متسائلة : " و لم يغلق المسجد من الأصل .. من الطبيعي أن يظل مفتوحا لعدة اعتبارات ليست الصلاة و فقط هى الاعتبار الوحيد .. ثم كيف يغلقون بيتا من بيوت الله !! من له السلطة ليفعل هذا !! " ، رد مستنكرا بأن " وقت الصلاة خلص من بدري "

استوقفتنى حينها تلك الجملة العجيبة " وقت الصلاة خلص من بدري !!! " .. اخبرته بأن وقت صلاة الظهر ممتد حتى يؤذن للعصر .. و ان " ظروف التكدس المرورى هى سبب تعطلى " ، كما أخبرته " صدق نيتي فى ألا أضيع صلاة الظهر خاصة بأن المسجد أمامى " .. فأصر على رفضه !!


يالله .. من يتحمل اثم منع مسلم أن يؤدي فريضة الصلاة لرب العالمين !! ..

أيدرك هؤلاء عظم ما يفعلون !! .. و يستوى فى ذلك من يأمر و من ينفذ


حينها أجد الآية الكريمة متجسدة أمامي : " و من أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه و سعى فى خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها الا خائفين لهم فى الدنيا خزي و لهم فى الآخرة عذاب عظيم "



أفقت سريعا بأنى مازلت أمام مسجد " ابن الخطاب " فى عباس العقاد .. كان التعب قد بلغ منى مبلغه .. و كنت أحتاج الى الجلوس لاستريح بالفعل .. نظرت حولى بعدما أغلقوا المسجد فى وجهي علّى أجد مكانا أستطيع أن استرح فيه قليلا قبل أن تأتى الى خالتى بعد ساعة كاملة ..

أخذت أقلب بصري فى كل تلك الأبنية المكدسة حولى باحثة عن مكان واحد أستطيع أن أجلس فيه ما بقى من الوقت .. مكان واحد يؤيني دون أن أجد نفسي مضطرة الى أن أخرج لأصحابه كل ما فى جيبي من نقود ليتفضلوا على بتركى لأسترح لديهم .. مكان واحد فقط .. أطلت البحث و أمعنت النظر ..

بعدها أدركت انى بلا مأوى بعدما أغلقوا أبواب بيت الله فى وجهي ..

أدركت أن المأوى الوحيد هو الشارع ..

نعم .. الشارع و فقط ..

الشارع فى ذلك الوقت .. الشارع بظلمته الموحشة .. الشارع بنظرات شبابه و رجاله المسعورة التى يستوى لديها اى فتاة تظهر فى الأفق .. الشارع بأرصفته المتسخه .. الشارع الذى يخلو من كل معانى الانسانية حتى و ان تجسدت فى مقعد على الرصيف لراحة المارة ..!!

فكرت فى أن أعود الى بيتي ثم مرة أخرى الى عباس العقاد حيث سأقابل خالتى .. ثم طردت الفكرة من رأسى سريعا فان ما سأستغرقه من وقت فى الانتقال الى بيتي ثم الى هنا ثانية فى ظل هذا الزحام سيكون أكبر بكثير من " ساعة " علىّ ان أنتظرها حتى موعد المقابلة ..


بيتي !! .. و ماذا اذا عن أولئك الذين لفظتهم بيوتهم .. أو أولئك ممن ليس لديهم بيوت من الأساس !! الى أين يذهبون ؟؟ الى أين يذهبون و مصر لم يعد فيها مكانا واحدا مفتوحا لأبنائها دون مقابل مادى !! ؟؟ الى أين يذهبون و قد أغلقوا فى وجوههم بيوت الله بعد أن أوصدت أبواب منازلهم أمامهم !! ؟؟


سحقا بكل لغات أهل الأرض !!! .. يالها من مدنية عفنة .. تحيل كل شىء أمامها بما في ذلك البشر ممن تجردهم من انسانيتهم فى معادلات مادية دنيئة .. لا تفهم أى شىء حولها سوى المال ثم المال ثم المال ..


لم أعد استطع الوقوف أكثر من ذلك لفرط الارهاق الذى كنت اعانيه .. و لم أجد مفر من الجلوس فى احدى " الكافيهات " الفارهه التى تحتل جوانب الشارع بالرغم من عدم رغبتى فى تناول أى شىء لآكله . و لكنى سأطلب أى شىء حتى وان كان " شاى بلبن " حتى أستطيع الحصول على ذلك الكرسي - الذى أصبح الحصول عليه أصعب من خروج اسرائيل من فلسطين - للراحة قليلا ..


استجمعت ما بقى من قواى و بدأت السير باتجاه احد " الكافيهات " .. كنت أبعد مسافة ليست بالقليلة عن أقرب " كافيه " فى الشارع .. أثناء سيري مررت باحدى المتسولات الاتى أصبحن من علامات الشارع المميزة ..


كانت سيدة عجوز .. طاعنة فى السن .. تفترش الأرض .. صوتها قوى و مرتفع للغاية .. تمد يدها امامها .. و صوتها يعلو لكل من مر بجوارها بـ " بالله عليك جعانة "


ظلت كلماتها تتردد بقوة داخلى بعدما تخطيتها بعدة أمتار .. كلماتها قاسية للغاية .. مؤلمة و مدمية


شعرت بقمة الـ " قرف " من نفسي .. تستجدى منك بأن تعطيها شيئا و تستحلفك بالله ، الخالق الأعظم .. و تطلب لا لرفاهية و انما للجوع الذى يفتك بها .. و انت ذاهبة لتناول الطعام .. ترددت كثيرا فى الرجوع اليها .. و لكنك فى النهاية لم تفعلى .. لم تلتفتي اليها أو تلق لها بالا !!


كانت دقائق قاتلة تلك التى مرت علىّ و انا جالسة " بالكافية " احتسى " الشاى باللبن " و أسترجع تلك العجوز .. أحسست بأن مزيج الشاى باللبن ما هو الا حمم بركانية تتخذ طريقها الى داخلى مع كل رشفة اتناولها ..


لِم لَم أذهب الى تلك السيدة لأعطيها شيئا ؟؟

ما هذا الجمود الذى أصاب مشاعري !!

لكن ما الذى يدريني بأنها صادقة حقا ؟؟

أليس من المحتمل و الوارد جدا أن تكون من محترفات الشحاذة ؟؟!!

لو كانت حقا جائعة كما تقول .. لم لا تأخذ الأموال التى جمعتها من المارة و تذهب لتشتري شيئا تأكله اذا ؟؟!!


فكرت فى أن أشتري لها طعاما و أعطيه لها .. ثم ترددت أيضا

هل ستقبله منى ؟؟ أم انها سترفع صوتها بسيل عارم من الشتائم ؟؟

هل لو قبلته منى ستغادر المكان لأنها شبعت من ذلك الجوع ؟ .. أم انها سوف تستكمل استجدائها للمارة لتجلب المال ؟؟


أصبحنا فى زمن قاسٍ و خادع للغاية .. انتشر فيه الفقر ، و الفساد معا .. فلا نستطيع التمييز بين من يستحق و بين من يحترف خداع الناس !!


لم ينتشلني من ذلك الصراع المميت بداخلى سوى صوت خالتى عبر الهاتف النقال لتخبرني بأنها وصلت لمكان المقابلة لتوها و بانتظارى


تهلل وجهى و خرجت من ذلك المكعب الخرساني الميت الذى كنت أمكث به مسرعة اليها ..


ألقيت نظرة عابرة على ذلك الشارع الممتد بأضوائه الساطعة .. و ترددت بداخلى تنهيدة حارة ..


" آآآآآه يا مصر .. و آخرتها ايه بعد ما حولوكى لحارة سد و حطوا ولادك جواها متكسرين " :'(