تلفت نظرى منذ فترة ليست بالقليلة ظاهرة أطالعها فى صفحات الجرائد و أجد لها صدى فى الحياة اليومية و الواقع المعاش .. لم تلفت تلك الظاهرة نظرى فقط .. بل و استفزت عقلى و فكرى و مشاعرى بشكل كبير ..
كلما لمحت لها طيفا جديدا .. وجدتنى أعيد نفس التساؤلات و الاستنتاجات بداخلى ..
بدأت تلك الظاهرة فى اثبات نفسها أمام عيناي منذ رحيل الكاتب د / عبد الوهاب مطاوع محرر بريد الجمعة فى جريدة الأهرام المصرية .. أذكر جيدا الأيام التى تلت وفاة د / عبد الوهاب بأنها شهدت مظاهرات عاطفية جياشة فى جريدة الأهرام ..
لاأتذكر حقا نص تلك المظاهرات الكلامية العاطفية .. و ان كانت جميعها رسائل حب و اعجاب و امتنان و تعظيم و تكريم .. حملت أسمى و أنقى المعانى و الكلمات ..
و منذ ذلك الحين أخذت في متابعة رسائل الحب و الامتنان التى تنهال على رأس " المرحوم " بمجرد وفاته !!!
المثير فى الأمر انه لم تقف تلك الظاهرة عند الأخبار المدرجه بالصفحة الأولى بالجريدة فقط .. و لكنها تثبت وجودها و بشده بالصفحات الأخيرة الخاصة بالوفيات .. و تحديدا حينما تطالع عيناك أى نعي مكتوب لفقيد احدى الاسر المسيحية ..
و سواء كنت تقرأ خبر وفاة احد المشاهير أو انك كنت تتصفح صفحات الوفيات .. ففى كل من الحالتين ستقرأ عبارات مثل :
" كان استاذا محبا "
" كانت تسعى للخير دائما "
" امتلك قلبا رحيما "
" كانت اما عطوفا "
" كان زوجا مخلصا "
" كرست حياتها للعطاء "
" نحبه و نجله و نحترمه "
" نفتقد وجوده معنا "
" كان ابا حنونا "
" كان اماما رائدا و معلما مخلصا "
" كان مثالا حيا فى حسن الخلق "
" كان طيب .. كان حنين !! "
ما أثار استفزازى حقا هو ان جميع جمل الحب و الامتنان و الاعجاب و التمجيد تنهال و تهدى بأغلى الاثمان على صفحات الجرائد بشكل مستنكر من جانبى " لجناب المتوفى و الى بيكون ساعتها مات و شبع موت " !!
!! "
فى تلك اللحظة يقفز الى ذهنى سؤال ملح .. لماذا يظهر هؤلاء كل هذا الحب للفرد بعد وفاته ؟؟؟ ماذا كان ليحدث لو اظهروا تلك المشاعر الجياشة و المحفزة له حينما كان حى يرزق بينهم !! لماذا يأتى الناس بعد فوات الاوان دائما ليقدموا " للمرحوم المحروم " هذا الفيض الجارف من المشاعر و التى من الممكن ان تظل مخبأة داخل صدور اصحابها طوال عقود من التعاملات بينهم و بينه و لا يظهرونها له باى حال من الاحوال !! .. بل انه من الممكن ان يظل ذلك " المتوفى .. الهى ربنا يرحمه و يبشبش الطوبة الى تحت دماغه " طيلة حياته فى تعب و كلل و " مناهدة " مع كل هؤلاء الذين يظهرون له حبهم الصادق بعدما انتقل الى الرفيق الاعلى !!
" مش برضه جنابه كان أولى بانه يسمع الكلمتين الى يردوا الروح دول وهو لسه عايش على وش الدنيا يعنى ؟؟ ولا هى المحبة ما بتحلاش الا بعد ما يكونوا جابو اجله !!! "
مساحات الاحتكاك الاجتماعى فى حياتنا عامة تحتاج الى تعضيدها بمساحات موازية بالتعاملات الانسانية الايجابية .. مما سيساعد بالتأكيد على تخفيف حدة توتر الحياة اليومية سواء كان ذلك فى العمل او المنزل او محيط الاصدقاء او كان حتى فى " الاتوبيس " !!
ان يعمل الفرد على توسيع نطاق صفة الانسانية عن طريق تجليها فعليا فى ممارساته اليومية بالاضافة الى خطابه هى احدى وسائل الاعمار الكونى باعتقادى .. و التى ارى انها اخذت فى التآكل بفعل عوامل التعرية المجتمعية السلطوية التى يعانيها المجتمع المصرى فى السنوات الاخيرة الماضية .
لا أعتقد ان اى فرد سيشطاط غضبا حينما يأتى اليه مرؤوسه فى العمل او ابنه فى المنزل او جاره فى السكن ليخبره بمدى حبه و احترامه له و مدى امتنانه لمعرفته !!
و لا أعتقد ان احدا من عامة الناس فى الشارع المصرى سيصاب باكتئاب حاد لو انه قوبل بابتسامه نقيه بعد اعتذاره مثلا " على انه داس على رجل حد واقف جنبه فى الاتوبيس من كتر الزحمة !! " بدلا من ان يكون رد الفعل " ابقى فتح بعد كده " او على اخف الضرر " يا أخى .. مع واحد وش مفلقط على رأى ابن رفعت !! "
تعبيرات انسانية بسيطة للغاية و فى قمة الثراء المعنوى لو انها قدمت فى وقتها المناسب .. بدلا من أن تقدم بعد فوات الاوان لكل من الطرفين سواء المرسل أو المرسل اليه
فى مثل تلك الاوقات الحالكة التى يعيشها المجتمع المصرى أؤمن بان الحاجه الى التقارب الانسانى و السموى الذاتى و الخلقى تكون اكبر منها الى اى وقت آخر ..
" من الاخر .. احنا فعلا محتاجين نقرب من بعضنا أكتر .. و نفهم بعضنا بشكل أحسن .. علشان على الاقل نقدر نصمد امام كل ما هو قادم "
أحد أسباب النهضة باعتقادى هى وحدة الصف الداخلى .. لا أتكلم عن النهضة بمعناها الواسع الذى سيداعب فكر كل واحد منكم الان .. و انما اقصد النهضة فى مستواها الابسط و الادنى .. والذى اراه يتجسد فى الافاقه من الغفلة بتشخيص المشكلة و بحث سبل علاجها .. و لن تأتى تلك النهضة الاولية الا فى ظل بيئة حاضنة تساعدها على ذلك ..
اعتقد ان أول لبنة يجب ان توضع فى تلك البيئة هى التقارب الانسانى _ الانساني
